كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذاك هو السر في هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار}. قاوم حب العيش، واطلب الموت توهب لك الحياة! أو مت شهيدا كهذا الذي قيل فيه: تردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهى من سندس خضر! إن القلة الشجاعة في بدر كشفت أن الكثرة المشركة سراب، وبددت شملها في الصحراء، فهى بين قتيل وأسير! كيف حدث هذا؟ يقول الله سبحانه مبينا صنيعه: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم}. إن الخطة التي رسمها القدر استدرجت جبابرة مكة إلى مصارعهم، ما أغنى عنهم عدد ولا عدة، أما القلة التي استغاثت بالله واستنزلت نصره فقد فازت فوزا عظيما. في سورة الأنفال ستة نداءات صارمة تحتاج إلى تأمل! إن الأسلوب لم يتجه إلى تهنئة المنتصرين بما أتيح لهم من نصر، بل اصطبغ بالشدة والتأديب وقمع الغرور! من هذه النداءات الستة نداءان بطلب الثبات ورفض الفرار وتوعد عليه بعظائم الأمور. والصحابة ما فر منهم أحد أو فكر في فرار. ويبدو لى أن الطابع الشديد للوحى، في أعقاب النصر الواقع، يرجع إلى إبراز دور القدر فيما ناله المسلمون من ظفر، وإلى استنكار التطلع إلى الغنائم والتنازع عليها، وإلى الاحتياط ألا يقع مثل ما وقع في أحد بعد ذلك! وقد وصف الله المشركين بما هم أهله، ومع كل وصف ورد نجد نصحا للمسلمين ألا يشبهوا القوم وأن يكون مستواهم أعلى! لقد وصف الله الكفار بأنهم دواب لا تعى ولا تعقل، وأنها تعيش في نطاق غرائزها لا تعدوه. وأن الطمس الذي شملهم جعلهم لا يسمعون شيئا مما يقال لهم.
ولو سمعوا وعرفوا ما يطالبون به فإن الكبر المسيطر عليهم يمنعهم من الاستجابة. وقد نادى الله المسلمين قبل هذا الوصف الذميم ألا يشبهوا الكافرين! {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} لا شك أن هذا تأديب شديد للمنتصرين.. وبعد وصف المشركين بالحيوانية في قوله: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}. اتجه الخطاب إلى المسلمين ليرتفعوا عن هذا الدرك الذي هوى إليه عدوهم.
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم...}. ومضى هذا التأديب في سياق حافل بالنذر مليء بالوعيد المقلق! مثل قوله تعالى: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه...} وقوله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}. هذا هو التعليق على النصر بعد خمس عشرة سنة من الآلام! علام يدل ذلك؟ على أن سائق النصر لعباده يرفض أي شبهة من غرور أو خيلاء، إن الله هو الذي أذل الكفر وأهله، هو يؤدب المسلمين المنتصرين بأدبه حتى لا تسكرهم خمرة النصر، فيسيروا بين الناس مستكبرين. ولذلك يقول لهم: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} أنه- جل شأنه- ذكرهم بما كانوا فيه من هوان وذل حتى يمحو كل ذرة من جاه أو تطلع إلى مال. ثم وجه إليهم هذا التحذير القوى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}. في جميع المعارك القديمة والحديثة يعود المنتصرون مزهوين، تنثر فوق رءوسهم الورود، وتغتفر لهم الخطايا، وتكال لهم المدائح.
أما المنتصرون في أول معركة كبيرة بين التوحيد والشرك، بين العقل والحماقة، بين الحرية الدينية والاستبداد الأعمى فإن كتاب الإسلام يوجه لهم النصائح، ويعلمهم الاعتدال.. ونحن نسوق هذا الدرس للمستشرقين الذين عميت قلوبهم فحسبوا بدرا أول المظاهر لعنفوان الإسلام وعدوانه، وعاد السياق إلى ما قبل بدر أو إلى ما قبل الهجرة ليشرح كيد المشركين للإسلام ونبيه. لقد كان رسول الله بأمر ربه يقول لهؤلاء الكفار: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}. فماذا كان موقفهم؟ الاضطهاد العام والتهديد للرسول نفسه بالسجن أو القتل أو النفى {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. والمفروض أن الناس إذا تحيروا وتشابهت أمامهم الطرق أن يقولوا: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولكن هؤلاء الجبابرة يقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}. إن الكفر فنون شتى، وهناك كفر دون كفر! ولعل أقبح أنواع الكفر وأجدرها بالنكال إنكار الألوهية بالله! يليها الشرك بالله والزعم بأن لله أولادا. وهناك رؤساء للكفر يعبدون أنفسهم في ظل التعطيل والتعديد. وولاؤهم للكفر باق ما بقيت لهم شهواتهم وأهواؤهم التي يقدمونها على كل شيء. وهناك دهماء تعتقد صحة ما تفعل وتخلص لله {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا...}. وقد كان في مشركى العرب من يظن مخلصا أن الأصنام تنفع وتضر، وأنها مفاتيح لله الأكبر! والمعروف أن الأنبياء دعاة إلى التوحيد الخالص، وهم محتاجون إلى زمن يعالجون فيه هذه الأخلاط الشاردة، ولذلك يقول الله لنبيه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} تجتهد في تبصرتهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} هل يعنى موقفهم هذا أنهم لا يستحقون العذاب؟ كلا، إنهم ظلمة للناس ولأنفسهم {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}. إن عبادتهم المغشوشة لا تجديهم، وعبثهم حول الكعبة لا يسقى عبادة، إنه صفير وصدى يتجاوب بالشرك، والطائفون الحقيقيون حول الكعبة هم الذين يذكرون الله وحده، ويحيونه بالباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والمشركون لا يفعلون شيئا من هذا إنهم بذلوا جهودهم في حرب التوحيد، وأنفقوا أموالا طائلة في التأليب عليه والإحاطة به وهيهات أن يفلحوا.
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}. وها هم أولاء قد غلبوا وحقت بهم هزيمة ماحقة فماذا هم صانعون؟. هنا يعرض الرسول عليهم التوبة، والانتهاء عن الكفر والفتنة، وعندئذ يعيشون موفورين {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}. إن المصرين على الظلم لن يجنوا إلا الندم، وقد هلكت من قبل عاد وثمود وخير لقريش أن تتوب، وإلا استؤنف القتال حتى تنقطع الفتن، وتستقر حرية التدين {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله...}.
التوى السياق بالمتطلعين إلى الغنائم، وتجاوز تنازعهم فيها، ووجه إليهم نداءات متتابعة أن يستقيموا على منطق الإيمان والفداء الذي التزموا له منذ خرجوا للقتال. وبعدئذ نزلت الآية بتخميس الأنفال فجعلت خمسا في وجوه الخير وتركت الأربعة أخماس الباقية للمقاتلين {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}. إلخ وظاهر من سيرة الرسول وصحابته أن هذا التخميس ليس حكما دائما لازما.
فقد خضعت الغنائم لتقسيمات أخرى مناسبة، آخرها ما وقع في أرض السواد ومصر وغيرهما على نحو ما فعل عمر! وقضية الغنائم تحتاج إلى تعليق مهم، فإن السلف الأول كانوا يجاهدون متطوعين لا ينالون أجرا. وكان الذي يخرج من بيته يشترى سلاحه من ماله الخاص، ويدع لأهل بيته نفقاتهم من جهده وحده. ويتعهد عدته للقتال دون انتظار عون من حكومة قائمة! فهل جعل الغنائم للمقاتلين- والحالة هذه- يعتبر عملا مستغربا؟ إنه مسلك معقول. لكن إذا تغيرت الأوضاع وأنشئ جيش منظم، ودفعت رواتب للجنود ووضع في أيديهم السلاح، وضمنت مداواة الجرحى وكفالة الشهداء فلا لوم على الدولة إذا تصرفت في الغنائم بأسلوب آخر.! ونلاحظ أن آية الغنائم جاءت معترضة بين أمرين:
الأول وصف عدوان الكافرين الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ويبذلون قصاراهم لفتنة المستضعفين، وفرض ضلالهم بالسلاح!
والثانى وصف الهدية التي ساقها القدر إلى المسلمين حينما يسر لهم نصرا غاليا لم تكن لهم يد في ترتيب مقدماته {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم}. وظاهر أن الله تبارك اسمه قمع كبرياء الجاهلية بضربة لم تخطر ببال أفقدت المشركين رشدهم، وبعثرتهم خزايا فوق رمال الصحراء! وشدت أصلاب المسلمين ونضرت وجوههم وعوضتهم في ساعة ما عانوه خلال خمس عشرة سنة! لقد كان يوم بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، جمع التوحيد وجمع الشرك، فأذل الله معاطس طالما استكبرت بالباطل وأنعش مؤمنين طالما صابروا الليالى المعنتة! ثم جاء بعد هذا العرض للوقائع النداء السادس في سورة الأنفال، وهو النداء الأخير.
وقد تضمن ست نصائح لبلوغ النصر، واستدامته! قالوا. إن بلوغ القمة يحتاج إلى جهد كبير ولكن التربع فوقها وطول المكث فيها يحتاج إلى جهد أكبر. ولعل ذ!ك ما تقصده الآية الكريمة وهى تحصى ضمانات النصر وحوافظه على مر الأيام. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} (1) {إذا لقيتم فئة فاثبتوا} (2) {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (3) {وأطيعوا الله ورسوله} (4) {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (5) {واصبروا إن الله مع الصابرين} (6) {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله...}. والثبات حين البأس يتطلب نفسا مفعمة باليقين والتضحية ويعجبنى قول الشاعر:
وقد كان فوت الموت سهلا فرده ** إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

وقد كان عبد الله بن رواحة نموذجا نبيلا وهو يكبح نوازع الحياة في دمه ويرغم النفس على شرف الفداء وملاقاة الردى قائلا:
يا نفس إلا تقتلى تموتى ** هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت ** إن تفعلى فعلهما هديت

يقصد زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وقد استشهدا قبله، وكانا أميرى الجيش في مواجهة الرومان. فلحق بهما ثابتا كريما واجتمع الثلاثة في ديار النعيم في الجوار الكريم! وذكر الله الشعور بقرب لقائه وأن المصير إليه والكفاح من أجله. وإذا كان المرء قلقا على فراق أحبة يغادرهم فإن الله من بعده هو متوليهم وكافلهم.. وطاعة الله ورسوله لابد منها لإحراز النصر ودوامه. وإذا كان أعداء الإسلام يعصون ربا لا يعرفونه ولا يوقرونه فحرى بالمسلمين أن يلزموا الطاعة ويحذروا المخالفة وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين. وقد كان عمر بن الخطاب يوصى جنده وهم يقاتلون الفرس بالبعد عن المعاصى ويقول لهم إنه لا يخاف عليهم كيد عدوهم قدر ما يخاف عليهم تسلل المعاصى إليهم.
فإنهم إذا استووا والكفار في المعصية وكلهم الله إلى أنفسهم وهم أقل عددا وأضعف عدة فتحيق الهزيمة بهم. وأنا أستشعر الأسى عندما أرى أخلاقنا أضعف من عدونا، ومسالكنا أردأ فأنى ننتصر؟ ثم تجئ وحدة الكلمة والابتعاد عن أسباب النزاع! والمسلمون اليوم خمس العالم، وأرضهم مستنقع لجراثيم الفرقة كلها، فهم سبعون حزبا بأسهم بينهم شديد، على حين ترى اليهود- وهم عشر معشارهم- قد وحدوا صفهم، وقاتلونا جبهة متساندة متعاضدة فنالوا منا وما نلنا منهم شيئا. وحاصروا المسجد الأقصى ونحن مشغولون بأنفسنا وقضايانا، فذهبت ريحنا وفل حدنا..! أما الصبر فهو على الطاعة، وعن المعصية ومع تتابع الأرزاء! ولن تطيق الصبر شعوب تبحث عن الشهوات وتألف الأهواء! وأخيرا فإن القتال الإسلامى شرطه الأول أن يكون في سبيل الله، أما القتال الذي ألفته شتى الحكومات فهو قتال عصبيات، وبحث عن الحطام وإعلاء لكلمة الطاغوت، واستغلال للمستضعفين في الأرض، فلا عجب أن تكون مصارع هؤلاء، في معاركهم على نحو ما وصف الله.
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}. وسير الطغاة متشابهة ومصايرهم واحدة {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب}. إن العصور تختلف ولكن سنة الله واحدة في الأولين والآخرين.
قال رجل جاهلى يرثى أولاده الذين قتلوا في معركة بدر:
ألا قد ساد بعدهم أناس ** ولولا يوم بدر لم يسودوا

نعم، كان يوم بدر له ما بعده، فقد ارتفعت كفة المسلمين وانخفضت كفة المشركين وزال عنهم ما كانوا فيه من كبرياء وخفض عيش! إن أيام النعمة لم تزدهم إلا عتوا وصلفا فلتزل هذه النعمة وليفقدوا سنادهم على الظلم {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} وهكذا يصنع الله بكل من جحدوا الفضل وكفروا العطاء من الأولين أو الآخرين.